و ان غياب العدالة الإجتماعية وتضخم الظلم والفساد ، والرشوة والمحسوبية ، وسيادة طبقة فوق أخرى بالقهر والعدوان ، وانتهاك كرامة الإنسان ، وفقدان أسباب الحياة الكريمة ، وانتشار الفقر المدقع الذى الذى يجُر فى ركابه المرض والجهل يؤدى فى النهاية الى إنحدار الأمة ، وتفككها ، وضعفها ، وإنحرافها عن مسارها الصحيح ، وخروجها عن الدور الرسالى الذى أناطه الله بها ، ويجعلها أمة قابلة لفقدان الهوية ، مفتوحة الأبواب أمام الأعداء من كل جانب، هذا من ناحية المآل والمصير ، ومن ناحية أخرى فإن غياب العدالة الإجتماعية ، وتفشى الظلم والفساد هو إنحراف خطير عن منهج الله الذى يقوم على العدل والرحمة والتكافل ، عدل فى الحكم ، وعدل فى المال ، وعدل فى الفرص ، وعدل فى الجزاء ، يقول تعالى ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة
ومن وجوه تفسير الأية عند الصحابة أنه كل مال لم تؤدى زكاته ، أو كل مازاد عن أربعة الآف درهم ، أو مازاد عن الحاجة ، فإذا كان الإسلام يحارب كنز المال ، ويجعل بعض الصحابة مازاد عن الحاجة كنزا ، فلنا أن نتخيل نوع العدالة التى يريدها الإسلام من أتباعه ، عن أبى موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أوقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في اناء واحد بالسوية فهم منى وانا منهم ) رواه البخاري ومسلم في الصحيح ،
إننا لا ندعوا الى الإشتراكية فى معناها الغربى ، ولا نرضاها مذهبا لأحد لكن إسلامنا يجعل هذا الإشتراك فى الثروة أمرا مستحبا ، لكن الذى يفرضه فرضا على معتنقيه هو التكافل الإجتماعى ، تقوم به الدولة أو يقوم به الأغنياء عن طريق الدولة تجاه الفقراء والمحتاجين ،
وفى تهذيب الاثار للطبرى عن ابن عمر متحدثا عن العهد الأول ، قال : لقد أتى علينا زمان ، وما نرى أن أحدا منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم ، حتى كان ها هنا بأخرة ، فأصبح الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ضن (1) الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد بعث الله عليهم ذلا لا ينزعه منهم حتى يراجعوا دينهم » ، 1 ؟ 126
وفى بعض الروايات للحديث السابق « وإن الرجل ليتعلق بجاره يوم القيامة فيقول : إن هذا أغلق بابه ، وضن عني بماله » بل إننا نجد عمر رضى الله عنه يكاد يجعل فضول أموال أصحاب الثروات حقا للمجتمع وليس لهم (عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لاََخَذْت فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ فَقَسَّمْتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.)المحلى 1/ 185
وعن َّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ".
قال أبو محمد بن حزم الأندلسى: مَنْ تَرَكَهُ يَجُوعُ وَيَعْرَى وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إطْعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فَقَدْ أَسْلَمَهُ ،، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ, وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ, قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ, حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لاَِحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ".
وقال أبو محمد بن حزم الأندلسى : (وَفُرِضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَقُومُوا بِفُقَرَائِهِمْ,
وَيُجْبِرُهُمْ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ, إنْ لَمْ تَقُمْ الزَّكَوَاتُ بِهِمْ, وَلاَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَيُقَامُ لَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ مِنْ الْقُوتِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَمِنْ اللِّبَاسِ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ, وَبِمَسْكَنٍ يَكُنُّهُمْ مِنْ الْمَطَرِ, وَالصَّيْفِ وَالشَّمْسِ, وَعُيُونِ الْمَارَّةِ.) المحلى باب الزكاة ،..ثم أن الإسلام يحرم كل وسائل تكوين الثروات بطرق غير مشروعة ، وما من شأنه أن يضر بالمجتمع كالربا والقمار والإحتكار والغش التجارى ، وأكل أموال الناس بالباطل فى أشكاله المتنوعة ، وبيع الوهم ، ويستند الإسلام الى نظام خالد هو حماية الضعفاء ممن لا حيلة لهم أمام من له كل الحيلة والغلبة والقوة بإسم المال أو السلطة ، أو حتى بإسم الدين.
الجميع فى نطاق المسئولية
،إن الدولة مسئولة مسئولية مباشرة عن تحقيق العدالة الإجتماعية ، وأول خطوة فى ذلك هو منع الفساد بكل أشكاله ، ومنع كل اشكال البيع المحرمة ، واختيار أصلح المناهج الأقتصادية للتطبيق والعمل ، مع تفعيل دور القطاعات الخدمية لتحقيق الرعاية الإجتماعية.
كما أن الفرد مسئول مسؤلية مباشرة عن تحقيق العدالة الإجتماعية فيما يقع تحت نطاق سلطته وقدرته ، وأى تجاوز وتهاون فى هذه المسئولية المباشرة هو خيانة للأمانة ، إن الكيل بميكالين هو داء الأمم من قبلنا ، وهو علة هلاكهم، عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعمل عاملا من المسلمين وهو يعلم ان فيهم اولى بذلك منه واعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين ..
السنن الكبرى للبيهقى ج 10 ص 118
وهذا الوعيد الشديد على غياب العدالة فى الولايات والوظائف ينبهنا الى عظم المسئولية وخطورتها على الفرد ، فالعدالة الإجتماعية بمثابة طوق نجاة للجميع ، وهى سر من أسرار نهضة الأمم ومن كلمات الحق التى يجب أن تقال أن الدول الأوروبية الحديثة لم تصعد صعودها الكبير هذا بطفرة العلم التكنولوجى فقط ، أو بوفرة المال ، ولكن ايضا بإنشاء عالم العدالة الاجتماعية ، وهذا سر من أسرار النهضة الغربية ، وقد تكون العدالة منقصوصة بوجه من الوجوه فى الغرب ولكنها موجودة وقوية لذلك هى عنصر تماسك فى المجتمع...واليوم ، أو غدا ، أو بعد غدا نحن مضطرون لأقامة العدالة ، لأقامة الدين ، ولأقامة الدولة ، ولتحقيق مفهوم الأخوة ، وكلما تأخر هذا اليوم المنشود كلما كانت الخسارة فادحة والألم عميقا .
ستظل قضية العدالة الإجتماعية هى الجسر الذى يفصل بين عالمين عالم ماقبل العدالة وعالم ما بعدها وما بين العالمين من الإختلاف كما بين السماء والأرض ، وبين النصر والهزيمة ، وبين الخير والشر وأخيرا بين الحق والضلال .